قصةٌ قصيرة بعنوان 'حقيقةٌ لا خيال '
"أنينٌ صامت "
في عام 1956 عندما استقرت 28 عائلة في حي يقع في الجانب الشرقي لمدينة القدس ، كانت تأمل أن يكون هذا اللجوء الأخير بعد أن تم تهجيرها من منازلها اثر نكبة عام 1948 ...هذا كان لبُ الموضوع ولكن قد آلَ الأمر إلى الأسوء في عام 2021 شهر مايو قرر " نتنياهو " لصالح جمعيات استيطانية إسرائيلية، بإخلاء البيوت في حي الشيخ جراح ثم بعد......
بدأت السماء تمطر الرصاص في كل مكان ، جرعة الجزع التي تكسو ملامح الأطفال وهم يراقبون الجنود الذين ينتشرون جراداً داخل المنازل، والبنادق التي تكاد تعتصر أمعاء الشبانِ ، وأسلحةُ البر والجو والبحر .
كان يوما غريبا، خلاءُ السماء ، تبدد الضباب، ريح تبدو عليها الشحوب ، كان سامر الذي لم يتعدَ العشرين من عمره جالس بالقرب من أمه ضعيفة البنية ، هزيلة الجسد ، تحاول أن توقد سُرُجا تششقت إثر سنين الألم والمعاناة، وذلك لأن محطات الكهرباء أُمِرت أن تقطع الكهرباء عن جميع أفراد الحي ، بعدها بدأت تخيط بالإِبرةِ والصوف ، وسامر الذي كان يقرأُ الكتب ،
_ امي ..! اتسمعين ؟؟!
_ ماذا اسمع يا ولدي ؟؟
كان سمع والدة سامر ضعيف جدا لذا لم تسمع ما حَارَ ودَارَ في الخارج ،
_ امي أنها أَنّاتٌ وصيحاتٌ لاطفال ابرياء يصرخون لإبعاد أيادي الانجاس الهمجيين الضعفاء .
_ امي سأخرج لأرى ما يجري أنتِ إبقي هنا ، ساعود
ردت الام بصوت بارد يكاد ينكسر كعنقود ثلج على وشك الذوبان :حسنا
خرج سامر ليرى ما يحدث ، فوجد جنود مدججين مثقلين محملين بالأسلحة والذخائر النارية أنهم هم امام بيتي .
قهقهَ أحد الجنود بصوت مرتفع ليظهر مدى ثقته امامي
ومهمه أحدهم قائلا بعبرية اغاظت اعصابي : أخرج من بيتي ، فرددت عليه بعبرية صافية : أنه بيتي وأملك عقد هذا البيت .
صفعني ضربة في وجهي مسحت النور في عيني وآخر أضاف زخات ولكمات وركلات .
رد بعبرية جاحدة : إن العقود هي ملكٌ لنا منذ الماضي لذا يحق لنا العبث في حينا .
حقااا صدق الامام الشافعي رحمه الله حين قال ( ما جادلتُ جاهلا إلا وغلبني)
بدأت ليلة ظلماء سوداء بعد أن رُفع اذان العشاء من "مسجد الحسين بن عيسى الجراحي" .
دس أحدهم لي ضربة كادت تفقدني وعيي امتدت يدي على الأرض لأجد في متناول يدي مفتاح فرجٍ أنجو به من غدر المحتلِ السراجُ الذي أضاءته أمي ، تعالت ضحكاتهم التي تنم على استهجان وسخرية وآخر يستبدل الذخائر بغجرية، وآخر ينادي " ميركافا" لتُنزل بيتي فوق رأسي ، كل هذا يحدث في طرفة عين ، لم استطع تمالك أعصابي تلقفتُ السراج بسرعة وكأن الأرض صاحت بإسمي لتنجدني وترمي لي شلة النيران الموقدة في السُرُجِ ، وما أن إلتفتُ لأجد نفسي رميتُ السراج على الجنود المحملين بالذخائر لأجدهم يشتعلون ويحترقون أمام عيني ، لقد بردَ قلبي من أحشاء القهر والمعاناة التي زجوها بداخلي ومن الحشو اثقالٌ اثقال ، تسللت يدي بخفية أثناء انشغالهم بإطفاء أنفسهم ، وسحبتُ ذخيرتين وبارودتين أُخفيهم عندي ، أوصدت الباب بإحكام خشية دخولهم علي وإرباكهم لخطتي ، أمسكت الأسلحة بإحكام فشدني نور يشتعل خلفي هلعتُ مسرعا لارى من خلال نافذة البيتِ ، لِأَجِدَ "تيرن" و"ميركافا" تصطف كطابور تستعد لتهديم البيوت ، في حال الجنود يخرجون النساء والأطفال بقسوة خارج منازلهم، وأخرى بيوتهم تشتعل ، وأخرى قد اشتد عليهم غاز "CS" تسيل دموعهم وكأنهم يتجرعون علقم من أنابيب الالم والقسوة ، وأطفال يبكون إثر ألعابهم ، ودهس الجنود على دُمَاهُم ، بكاء طفلة لشدة فراقها على مُؤنِسَاه لقد قطعت احشائي على نزول دمعتيها من كلا مقلتيها .
دق باب بيتي فجأة .. لم استطع الحراك .. خوف أن يكونوا هم ..!
تداولت الأفكار في رأسي كالغبار الضال الذي يمنع عابر السبيل من الرؤية إن ارتطم به . ...اأأهم ..هل هم الجنود..؟؟
أمسكت بإحدى البنادق ، وفتحت الباب وانا أوجِه بيدي إلى من يقف امامي ..
_ سامر ما بك ؟؟
_ اهٍ أنه صديقي المقرب يُوسُف
دخل يوسف البيت واوصد الباب خلفه ثم نظر إلي نظرة بريئة خالية من الشبهات والأكاذيب الدنيئة : آسف لقد اخفتك يا صاح
_ يوسف ما الذي جاء بك الان في ظل هذا الوضع الغير المألوف عن العادة
_ جئتُ لأحتمي عندك.. سامر ...! أنهم يلاحقونني
كان الدم يندلق من أعلى مقدمة راس يوسف الذي امتزج بملامح وجهه صافي الاديمَ والكدمات التي تعلو محياه وعنقه كأنها أختام والدم الراشح حبرٌ لا يزول مع الزمن .
_لا حاجة للذعر والخوف يا صاح انت صديقي المقرب لا تخف، ابتسمت له ابتسامة خفيفة أزالت الهلع في اعينه خضراوتا اللون وكأن الذي يتكلم لم يطعن الف طعنة خلف ظهره ويحاول التخفيف عمن حوله .
_ يوسف لنخرج لهم لعل وعسى نستطع إبعادهم ولو بقليل عن الاطفال والنساء المعبثرين في الأرض لا مكان لهم للجوء فيه .
_ألك بالسلاح ؟
نعم ، لك " بالتافور " و لي "x95"
_ حسنا ، جيد
خرجنا من البيت أغلقت الباب ولكني أغفلت عن إحكامه ...
مالي لا استطيع الحراك ... تحركي يا قدامي... شعرت أن جذورا من الأرض خرجت ، امسكت بقدمي ،ضبابٌ اسود حالك وكأن ساقاي قد بُتِرت عن باقي جسدي ، نساء يبكون هلعا ورعبا ، اطفال ضائعون مرعبون غلبت عليهم الفاقة والعوز لم يستنجدوا بأحد، والشبان التي كادت تتمزق شرايين العنق من شدة دهسهم عليها .
_لم استطع الحراك .. ماذا افعل ..؟؟
تجمدا في مكانهما واقشعرت ابدانهما ...
يوسف ..يوسف ...
أااااه....حسنا حسنا ...
وقفت أمام الجنود الذين يبتسمون ابتسامات سخرية واستهزاء وجهت بندقية "x95" باتجاههم صرخ أحدهم بعبرية قائلا : من أين لهذا العاميّ بأسلحة وبنادق ؟؟
رددت عليه: لا شأن لك ، بدت عليه ملامح الغضب، يقف امامي بعناد ولُجّ، نضحته بالأحذية والبندقية وكل ما اطالته يدي ، وقف يزمجر بنبرة خوانة حادة ، امسك بيدي التي تسمك السلاح ،
فلم أجد نفسي الا وقد قُلِبت على الأرض لأجد قبضة بصطاره تشتد من مقدمة وجهي الي مؤخرة عنقي
ويوسف الذي خال أنني بالكاد حيا ، تجمعت عليه وحدة من الجنود نادت بإسمه وقد......... أطلقت النار في منتصف صدره .......
نافورة الدم المتفجرة من صدره ، ابْتُلَّ قمصيه وقلنسوته الدافئة بدم أنقى من عسل مصفى ، ابتل بدم المسك للشهيد ، طرح يوسف على الأرض شهيدا محملا على الأكتاف ، صرخت بإسمه بصوت كأن صوت زنٌّ دار في رأسي ولم اسمع حتى صرختي، يوسف الحجر من الارض والدم من رأسك .
استشهد رفيقي وانا ما زلت تحت بصطار جنديٍّ غليظ الصوت يبدو شاحب الوجوه ، قليل الراحة في النفس .
بدأت الناس تصرخ بأعلى صوتها، والامهات يبكون إثر أولادهنَّ، والرجال يبعدون أيادي الانجاس الهمجيين بأسلحة شبه باليه ، يمسكون بيوسف الذي احتضنته دُناه بأنه شهيدا محملا ، "إن أكتاف الرجال خلقت لحمل البنادق" ، بدأت الناس تساعد بعضها الاطفال يرمون جمرٍ من نار مُحمى إثر علبة كبريت باليه ، والنساء بالطواجن ، والرجال بقبضاتهم واكتافهم وعصيّ ذابت مع مرور الزمنِ
هلع الجنود إلى الخلف يحاولون إخافة أهل شعبي وإخوتي ، لكنهم هربوا مروعبين منا اختبؤا وراء حصونهم مهلوعين خائفين مما سيحدث لهم.... يا لهم من ضعفاء ، مدَّ امرئ لي يده لاقف على قدامي ، يوسف عندما رأيته ارتسمت على ملامحي آثار صدمة انهال علي فور أن رأيته مباشرة امامي ، عيناي قد جفتا عليك يا يوسف ، رحمك الله ..
مرت ليلة سوداء باردة لم أشعر بآلام كهذه في حياتي قط ، بعد والدي الذي استشهد أيضا إثر الاحتلال الخوانِ، الغدارِ،المنافق ....
قال تعالى" مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا" (23) ، الأحزاب
تذكرت والدتي التي كانت تخيط بالإِبرةِ والصوف، هلعت إليها أبكي ، دخلت البيت وجدتها لازالت هناك تجلس في مكانها ويتصبب وجهها بالدموع وهي تغزل بالصوف، عانقتها وقبَّلتُ يداها انها امي فهي رونقّ جذاب
بعد أن انتهت هذه الليلة دفن يوسف في"كرم الجاعوني "
لم تتوقف قوات الاحتلال عن اقتحام البيوت وأسر الاطفال والنساء وقتل الأبرياء والسكن في بيوتهم بغير مرادهم ..... صفنتُ في السماء الخالية من غيومها وقلت المعمي بسوء النية لا يستحق جهد التبرير ، ربي لا تكلني لنفسي طرفه عين ، واحفظ أبناء شعبي وادفعهم للدفاع عن أرضهم ووطنهم واجعلهم من الاوابين التوابين اليك يارب .
تعليقات
إرسال تعليق